الأربعاء، 27 فبراير 2013

وانطفأت شمعة من حياتي



كنت على وشك أن أحمل حقيبتي وأتوجه لقضاء بعض شؤوني خارج الوطن واذا بالهاتف في أرجاء منزلي يتعالى وباستمرار حاولت تجاهله لكن صوته مع صوت الجوال جعلني أتراجع ...أحسست أن هناك أمر ما ...لا أدري لماذا ارتسمت صورتها بمخيلتي  في تلك اللحظات ... رفعت سماعة الهاتف بيد شبه مرتجفة.. وسمعت من بعيد ...ماتت...ماتت ..
وضعت السماعة بحزن وقلبي يعتصر ألما.. وانا أتذكر اخر زيارة لها في المستشفى سبحان الله.. كان وجها مشرقا على غير العادة ...كانت تتحدث الينا بسلاسة .. وبترحيب حار....ورغم حياة الألم التي عاشتها لم تغب ابتسامتها عن وجهها.. نظرت الى بعيون باهتة لكنها مبتسمة رأتني أبكي... جريان عيني لم يتوقف لأدري لماذا ؟؟؟هل هو رأفة بالأم الملهوفة ؟أم الابنة المريضة.؟....
أخذت منديلا من جوارها ومدت به الى ..وكأنها كانت تقول لي لا تبكي كوني بقرب أمي ...فهي بحاجة الآن الى كل نفس قوي.....
أه من أمها أه من تلك المرأة الحزينة.. ...
صعب عليها ان تحب انساناً كان له دور في تشكيل وجدانها وعقلها وتبحث حولها فلا تجده , ولا تجد منه الا ذكريات ومشاعر تستحضرها وتغيب معها لأوقات وأوقات... ثم تستيقظ من غفوتها تحمل الواقع بما فيه , وتجد مشاعر حزينة مغلفة بصدمة , ان  استسلمت لها سحقتها , فتكافح وتطرد الفكرة مرة تلو المرة ....
كل تلك الذكريات مرت بخاطري بعد أن سمعت الخبر على الهاتف أسرعت الى الغالية لا أدري على من كانت لهفتي أكثر ...هل هو على رؤية الحبيبة قبل أن توارى الثرى؟؟ أم على رؤية الأم الصابرة..؟؟ توجهت للمنزل مباشرة وهناك كان المشهد الذي لا ينسى... مشهد طبع في الذاكرة ..مشهد دمغ في القلب.. مشهد لا يٌحكى ولا يٌكتب عنه.. وجدتها في كفنها في احدى غرف المنزل لم تتملكني رعبة الموت أو حتى الخوف من مشاهدتها...كنت على ثقة أنى سأجد وجه ملائكي... دخلت اليها وقلبي مفطور.. وعيني جف دمعها ...ربما جف لتترك لي مساحة لأشاهد ذلك الوجه الملائكي.. فتحت الغطاء عن وجهها ..ونظرت اليها وما أجملها من نظرة ...فابتسمت بصورة لاإرادية لأن الوجه الذي رأيته وجه طفلة جميلة مبتسمة شديدة البياض والنعومة ..دافئة ...يديها على صدرها في وضع الصلاة ...سبحان الخالق فيما خلق ...حتى علامات الحقن وعلامات المرض اختفت ... نحالة المرض توارت ...وحل محلها جمال رباني لم أشاهده بمثل هذه الدرجة وهي على قيد الحياة... فقبلت جبينها ويديها ...وهمست في اذنها بدعاء ..ثم عدت لتقبيلها مرة أخرى .. وخرجت من غرفتها بعد أن غطيت وجهها من جديد ..
توجهت للغرفة الأخرى غرفة الوالدة المكلومة... كنت أتوقع أن اجدها تصيح وتبكي وتتأوه ...لكن كان عجبي أكثر من عجبي مما رأيته في الغرفة الأولى... وجدت أم حنون يديها على قلبها ومضمومة الى صدرها بكل حنان الدنيا وعاطفة البشر ..وكأنها تضم ابنتها الى صدرها وبقوة ..عيون مغمضة وكأنها كانت تعيش معها لحظاتها الأخيرة .! أو كانت في لحظات صمت تودع فيها صغيرتها ..وتخيل الي أنها في تلك اللحظات كانت ترسل لابنتها في الغرفة المجاورة لها رسائل قصيرة تحضها فيها  على الثبات عند السؤال وتدعوا لها...

عيناها تذرف الدموع ..وتنسكب على ملامح وجه قد كبر مائة عام ... كانت تجلس كالقرفصاء في احدى زوايا تلك الغرفة ...جلست عند قدميها وقبلت رأسها ..نظرت نحوي  بعيون كسيرة وقلب تحسر على فقد غاليتها ...وقالت لي "حبيبة ماما راحت...راحت..." ..واتبعتها بالحمد لله... وكأنها تتدارك مداخل الشيطان لينسيها الحمد والثبات...فتعود من جديد وبصوت هامس يكاد لا يسمع.. بسمة راحت.. راحت ..فتعود لتستدرك الحمد والثناء ...نعم ذهبت ابنتها ولكن ذهبت الى خالقها ..ذهبت كعروس.. في 17 ربيعا خرجت من منزل والدها الى منزلها الأبدي السرمدي...خرجت كالعروس التي تزف في فستانها الأبيض... خرجت والعالم كلة يسير وراءها.. خرجت في زفة كانت تتمناها وهي صغيرة عندما كانت كغيرها تحلم بالفارس وعش الزوجية... لكن الله اختار لها الأفضل اختار لها منزلا أفضل. ..وحياة أفضل ...ودعتها والدتها بالدموع كما تودع العروس أيضا بالدموع دموع الفرح ودموع الحزن على الفراق...

عجبا لحال تلك الأم دموع في دموع ...حزن يتبعه دموع ...فرح يتبعه دموع...الم يتبعه دموع... الى متى ايتها الأم ونهر عيناك لا يجف؟؟ الى متى ايتها الأم وقلبك لا يستريح ؟؟ الى متى ايتها الأم والعالم يسير من حولك وانت تسيرين حول أطفالك؟؟..الى متى ايتها الأم وانت تعيشين لغيرك وتشقين بشقائهم؟؟... كان ذلك حالها وهي تودع ابنتها ...وهي تستقبل المعزين لم تجزع.. ولم تصرخ.. بل ظلت على ثباتها.. وكأن ابنتها ستعود اليها في يوم ما لتزورها..

أخ ...ثم أخ ..تعلمنا الدروس من هذه الأم والابنة البارة ..تعلمنا الصبر والثبات ..تعلمنا الرضا بالقدر خيرة وشرة ......تعلمنا ان الصبر عند الفجيعة الأولى... تعلمنا أن الله اذا أحب عبدا ابتلاه .. رغم انه كان متوقعا موتها لكن الفراق صعب مهما كان متوقعا .....وكأن شمعة من شموع حياتها انطفأ.. أو زهرة من زهور حياتها ذبلت ثم ماتت بين يديها... وربما تكون حالها كسماء فقدت بريقها بعد أن فقدت نجومها... كانت كل يوم تمتع نظرها برؤية ذاك القلب الحاني والعطوف ... البار ..وتتلذذ بألذ كلمة في الوجود امي امي... لكن كان ذلك الصوت قد اختفى من بين جنبات منزلها...
استرجعت الأم في لحظات حزنها وصية ابنتها  الأخيرة  ..."أمي ارجوك لا تبكي على ..أمي حبيبتي اقرأي لي ما تيسر من القران.. وبصوت هادئ... " ...كانت تريد ان تتلذذ بصوت أمها وبكلمات ربانية ..أحست الأم ان ابنتها في لحظات سكرات الموت الأخيرة...... اللحظات الأخيرة التي كانت الأم تراها قريبة وتتمنى بعدها....ضمت يدي والدتها... وطلبت منها أن تلقنها الشهادة ...عندئذ تنفست الأم بألم ومع كل نفس كانت سكينا تغرس في قلبها ....لأنها أحست بالنهاية .....لكنها ثبتت وكان الله معها.. ...فأخذت تردد الأم .....
قولي اشهد ان لا لالة الا الله ... فرددت بصوت ضعيف هادئ شبه نعسان ..."اشهد ان لا اله الا الله واستغفر الله اني كنت من الظالمين" ....
قالتها بكل هدوء وثقة !!!! ثم مال رأسها بكل هدوء على وسادتها ....وكأنها عادت الى النوم...نعم عادت الى النوم ولكنه النوم الأبدي
ما أجملها من نهاية وما أحلى حسن الخاتمة...
تركت الأم يد ابنتها  بهدوء بعد ان رأت الأجهزة توقفت ...علها تحاول اصلاحها..... كانت شبه مذهولة ومرعوبة .....وفي لحظات كانت الغرفة تعج بالأطباء ...أخذ أحدهم يد الأم ..ولسانها حالها يردد لماذا تغطي وجهها هي نائمة ....رأف بحالها الطبيب
فأسمعها شيء من القرآن عله يهدئ من روعها .....فهدأت نفس الأم الجريحة .. وتنهدت بتنهيده  كأنها بركان من الحمم.... الذي لو خرج من قلبها لأحرق من جاورها
جلست بجوار حبيبتها حتى جاء من أخذهما الى المنزل...
لتنهي بذلك قصة من أروع قصص الصبر والبر والثبات والايمان لأم جاهدت طوال حياتها ...وجهادها لن ينتهي الا بنهايتها ...... ففداك نفسي ياأمي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق